
حبيب السنافي
عضو المكتب السياسي
يميل الكثير من المشاهدين إلى متابعة فيديوات الافتراس، التي تهاجم فيها الحيوانات المفترسة ضحاياها من الحيوانات الأخرى، غارسةً أنيابها، قطعاً لأوصالها، كما يهوى البعض مشاهدة الأفلام الحربية، متفاعلاً مع معارك المتقاتلين والانتقام المتبادل بينهم، بلا رحمة أو هوادة.
نزوع البشر لوحشية المعاملة والفتك بالعدو، مهما كان، بشرا أو حيوانا، يبدو مستمدا من الكوامن الأولية للنفس البشرية، فالوجود البشري منذ الأزل استهدف من قِبل حيوانات ضخمة فتاكة، استلهمت منها النفس البشرية شراستها وضراوتها في إلحاق الضرر بالمنافس، وديناميكية القائد قد تبدو مستنسخة من وجودها الأولي في القطيع الحيواني.
ولقد أصاب ابن المقفع ما أصابه عندما استعار الحيوانات بديلاً لشخوصه ولم يشطح بعيدا.
فنحن وفصيلة الحيوانات من مركبات متشابهة، وطبائع الوحوش العديد منها موصوف في تصرفات الأفراد، فالغدر والمخاتلة والحصار وغيرها، مشتركات تكوينية بين البشر والوحوش يسهل متابعتها، وتجارب الذكاء العقلي والتصرفات السيكولوجية عند الحيوانات ليست بمنأى عن التجارب والمختبرات الغربية المتطورة.
صراعاتنا السياسية والدينية والاقتصادية، أججت الشراسة الكامنة في النفوس، وأذكت جمرها عند المخاصمة والمنازعة، وكانت رافداً لاستمرارية الحروب طوال قرون لم يحل فيها السلام قط.
كانت المعاملة الوحشية والمتبادلة بالمثل جزءا من العقدة النفسية للأفراد وعند الجماعات، يطلق عليها «حالة الانتقام»، وهي الحالة التي يصفد فيها العقل، ويشتعل أثناءها فتيل الشراسة تحت مسميات غسل شرف العار أو تلطيخ سمعة القبيلة والعائلة أو إهانة كبرياء، كي يبرر البعض لأنفسهم إطلاق الضغينة والعداوة الكامنة في النفوس.
تتعدد صور الوحشية؛ وحشية الحاكم المستبد، وحشية التاجر الجشع، وحشية القاضي الجائر، والأب المتسلط، وأنماط أخرى لم تخل منها المجتمعات البشرية، تلطخ وجه التاريخ بمخازيها.
الملاحم والبطولات الأسطورية التي دوَّنها التاريخ انعكاس لنزعة التوحش لدى البشر، وتماديهم في العداوة والاقتتال من دون معنى – لاحظ الحروب العبثية بين الدول وحالات التشفي بالانتقام الرهيب بين الطبقات الاجتماعية – وستصدمك موجة الوحشية العاتية في «الانتقام»، مهما فدح ثمن الخسارة، وتلقائية هذه الشعوب بنسيان ما تم تدميره وإهلاكه وتخريبه من حاضرها، مادامت نفست عن وحشيتها الكامنة.
الوحشية فعل فردي وجماعي ممارس، والقبول به والرضا عنه يقربنا أكثر من المملكة الحيوانية التي ننتمي إليها، وقد يبرر البعض، بأن الوحشية تنبع تبعاً للظروف الاجتماعية والاقتصادية في بيئة المجتمع، لكن هذه الظروف ذاتها، ألم تكن نتيجة صنائع أفراد أو طبقة هي جزء من المجتمع نفسه؟ أي أن المجتمعات بنفسها تعيد توليد وبعث نزعة التوحش القائمة فيها.
جهدت الحضارات المندثرة، وتبعتها حضارتنا الراهنة في تعمير وتطوير بيئتنا الخارجية، وأصابت بعض النجاحات، لكنها أخفقت بامتياز في تعمير الداخل الإنساني وتهذيبه، بل قل فاقمت من وحشيته وعداوته، فجشع «الاقتصاد المتوحش» للشركات سلب الشعوب قوتَها، واستعبد عمالها، و«علومنا المتوحشة» تبيد البشر وتميد الأرض بصواريخها العابرة للقارات، ووسائل البطش الحديثة يسأل عنها في معتقلات الشرق والغرب.
بالمحصلة، الوحشية طاقة شريرة كامنة في كل نفس بشرية، نتأمل بالتربية تصفيتها نهائياً من النفوس.
نقلا عن جريدة الطليعة