
حبيب السنافي
عضو المكتب السياسي
عندما يختلط البشر، من شتى الأصول والأجناس والملل واللغات والمذاهب الفكرية، في بقعة ما، كما حدث في بداية الاستيطان في القارة الأميركية، أو في أوج فترة «الاستعمار العربي»، فإنهم ببداهة وعفوية، سيسعون، جاهدين، للمقاربة والمعايشة والتآخي في ما بينهم.. وبالتالي، تتولد شرارة الحضارة، التي تتوقد من خلال التفاعل الاجتماعي بين المواطنين المتباينين، ما يجعل الأجواء الثقافية والفكرية زاخرة بشتى العلوم وأنواع الآداب والفنون وقيم المبادئ الأخلاقية.
فالأخلاق من العسير تطورها في المجتمع المغلق والمنطوي على ذاته، وكيف تتبلور مفاهيم التعايش والتسامح والتآلف بين المتنوعين؛ عرقياً ودينياً وثقافياً، إذا لم يكن هناك اختلاط وتبادل وتعامل يومي حي في ما بينهم؟!
كما أن الديمقراطية وحقوق الإنسان يصعب استيعاب ووعي معناهما ومغزاهما، إلا باعتناقهما، قولا، وممارستهما فعلا.
عندما يتم خنق المجتمعات، وبالذات بعض المجتمعات الخليجية، بإيصاد منافذ الثقافة والفكر الحُر الناقد، وحجب المواقع الفكرية، بحجة بث الإلحاد على الإنترنت، بينما تلك المواقع تتبادل الأفكار والآراء، وتناقش القضايا الملحة، بكل شفافية ومصداقية، وعندما يُضيَّق على المواطنين فرص الوصول للمعلومات والأخبار، إلا عن وسائل الإعلام الحكومية الموجهة، بسياساتها المتخبطة، ذات الرؤية بالاتجاه الواحد، تبدأ دوامة الجهل بجرف العقول المتحجرة لقاعها السحيق.
عندما تركد المياه تمسي آسنة، والهواء عندما يركد ينتن، والعقول عندما تتوقف عن التفكير العلمي الناقد والخلاق تصدأ، وتعمى عن إدراك كنه المسائل وحقائق الحياة، وحينها لا تفرق بين الحق والباطل، ولا تميز بين السقيم والسليم، وتسلبها العواطف الجياشة والشعور الديني الطاغي مقدرتها على التفكير والتبصر.
لم تكن هذه حالنا منذ مئات السنين.. كانت مجتمعاتنا مفتوحة، مدارسنا الدينية، آنذاك، تناقش مسائل الفلسفة الوثنية اليونانية والإغريقية، يستمدون منها الأفكار والنظريات، ويضيفون عليها ويعدلون، خصوصاً رؤى العقيدة والأخلاق، وكانت حارات المسيحيين واليهود تكتظ بهم، وكنائسهم ومعابدهم مرعية وآمنة من العبث والعدوان، وكان الاختلاط بهم سمة وعادة غير منكرة، وحديث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب منسيا.. أما اليوم، فمع الأسف، حتى الأخ والصديق المقرَّب كفَّرناه.
عندما يتهوَّر ذلك «المجاهد»، ويبيح لنفسه إعدام ابن عمه ونسيبه، في آن واحد، رميا بالرصاص، مع تصوير المشهد، واعتباره لفعلته إنذارا وتهديدا للسلطة والمنتسبين لدوائرها الأمنية، كما شاهدناه في مقطع الفيديو المنتشر حتى بين اليافعين، ندرك مدى الضغينة والغل الهائل الذي بُذر في صدر ذلك الشاب ضد كل مخالف لعقيدته وفكره، ومقدرة الفكر المفتون به على نزع الرحمة والشفقة من قلبه، حتى على أهله وذويه.
هذا ما يسعى إليه الفكر الداعشي، ليحرزه في نفوس مريديه، أن يتخلى «مؤمنوه» عن أهلهم «الكفار»، ليبايعوا خليفتهم المزعوم.
بأي مبررات ومسلَّمات يمكن تقبلها، استطاع أولئك الكهنة أن يبدلوا القلوب الصافية إلى خزائن للمقت والعداوة، ويدفعوا الشباب الغض لطلب «الجهاد والاستشهاد المزيف»؟
نؤوب للفقرة الأولى ونضيف: لو سمحت السلطة في ذلك البلد الخليجي لأفكار العلمانية والعقلانية ومعاني الحرية التداول بين الشباب، وشرعت أبواب الثقافات المختلفة، للولوج في عقل مجتمعها وروحه، لكان بالتقدير أن تتحاشى مثل تلك الجرائم البشعة التي لا يمكن ارتكابها، إلا في مجتمع يغلق نوافذه الضيقة بوجه إعصار التغيير القادم.
نقلا عن جريدة الطليعة