مشروع الثورة مشروع إنساني بزغ نجمه مع انطلاقة التاريخ الإنساني، ولم يهدأ يوماً، فالتاريخ الإنساني، هو حكاية الصراع بين البشر حول ملكية الأرض والتنافس على مواردها، وإن تمظهر أحياناً بلبوس آخر، كالدين والعرق، أو أصناف الانتقام الغائرة في الصدور منذ الأزل.
ومشاريع الثورة العربية، كغيرها من الثورات، سجلت فشلاً ذريعاً في محاولاتها المتكررة للنهوض بالشعوب العربية، وآخرها ثورات الربيع العربي، التي فاجأت الجميع بزلزالها الذي محق وهَم جبروت الأنظمة الفاسدة ووحشية أجهزتها الأمنية، ولكن يبقى مصير هذه الثورات مهدداً بالفشل والتراجع.
نعم، أسباب الثورة متوافرة، لكن منطلقات نجاحها وديمومة حراكها مجهولة عند الجماهير الثائرة، وحتى عند منظري الثورة وقادتها الميدانيين، ودرب الحرية لا يزال ملغوماً بالمتربصين والمتآمرين، وسكة قطار النهضة لم تعبَّد بعد ولم تشيَّد، لغياب المشروع الثوري المتكامل، فطبيعة أنظمة الحكم وسياساته، ومتطلبات النهوض الاجتماعي، وانتشال الاقتصاد من الحضيض، والارتقاء بالتعليم والصحة، وغيرها من مفاصل المجتمع، لا يزال يكتنفها الغموض والشلل في ذهنية الجماهير الثائرة.
الجماهير العربية التواقة لنسيم الحرية توهمت أن هزيمتها وإزاحتها للأنظمة الفاسدة هي هدف الثورة – وإن كان ذلك صائباً – لكنها صدمت حين اتضح لها أن كل ذلك النضال لم يكن إلا قفزة في مسيرة درب الجهاد، لنيل كرامتها وسيادتها، وأنه إن لم يواكب ثوراتها تغيير لنمط حياتها بفروعها المتعددة، وتمكنت من استبدال القوانين الجائرة بقوانين إنسانية تلبي الحاجة للحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة لكل الطوائف والأقليات، فإن ثورتها تعد مهرجانا استعراضيا للقوة تعود الجماهير بعدها للدعة والراحة والاستسلام لجلاديها المتربصين بها.
إخفاق ثورات الربيع العربي من أسبابه أن الجماهير الثائرة لم تحسن اختيار نوابها وممثليها لبرلماناتها، فلم تستبدل منهجها السابق وتتخلى عن سوابق جهلها المقيدة لحركة نهوضها، متمثلة بالتسلسل الهرمي الاجتماعي.. القبيلة، الطائفة والعائلة، ثم سطوة النفوذ الديني، ما يعيقها من الولوج في المرحلة التالية، وهي بناء الدولة المدنية الحديثة بمتطلباتها الإنسانية والقانونية.
ومما يزيد الثورات إخفاقاً عدم تبدل الأسس والمعايير الثقافية، فالتغيير والتطوير لا يزالان مستسلمين لنوازع الجماعة وأهوائها، وفكر الفرد رهينة لتوجهات الأكثرية وضحية للتفكير الجمعي، وهو ما ابتليت به ثقافتنا وحياتنا الاجتماعية المثقلة والغاصة بالمفاهيم المعتقة.
من السذاجة أن يظن البعض أن أحلام الثورة والثوار ستتحقق على أرض الواقع خلال أشهر، فالثورة الفرنسية، وهي من أعظم الثورات الحديثة، استمرت زهاء عشر سنوات، ومع هذا استقرت أخيراً بعصمة نابليون بونابرت القائد العسكري.
من المهم أن تعي الجماهير العربية، أن قوانين الثوار بعد الثورة هي التي سادت، وميليشياتهم هي التي حكمت – وهذه هي الخطيئة – فقوانين الثوار غير مهيأة لإقامة نظام سياسي يتكئ على المبادئ الدستورية والقوانين العادلة، وحوادث التاريخ أكدت أن روح الانتقام تطغى على تصرفاتهم وسلوكهم، وأن الواجب عليهم يحتم تسليمهم السلطة للشعب بكل طوائفه، ليقول كلمته، اتقاءً للفرقة والانقسام.
نقلا عن جريدة الطليعة