حبيب السنافي : فن النقد

حبيب السنافي عضو المكتب السياسي

حبيب السنافي
عضو المكتب السياسي

النقد فن وعلم تفتقده مجتمعاتنا ومؤسساتنا العلمية، وتجهل مدارسه ومناهجه وآلياته، عدا عن فوائده ونتائجه التي طالما أسفرت عن معطيات لها أثرها الباهر في مسيرة البشرية، وأولجته لحضارة مازالت ترفد البشرية بأسباب الرفاهية والتقدم.

النقد حق أصيل للفرد والجماعة، حق النقد للسياسات والمناهج والأساليب التي يتعامل ويتفاعل بها المجتمع، مهما كانت لتلك المسميات من عراقة وأصالة، فالنقد لا حدود له، وبالذات إن استند إلى العقل السليم والمنطق الصائب.

معضلتنا مع النقد أننا لم نحسن استخدام أدواته، وكثيراً ما يعتبره البعض هجوماً شخصانياً أو نيلاً من.. أو طعناً في.. رغم فرض حياديته ونأيه عن توجيه الاتهامات بلا سند أو دليل مادي، فضلاً عن خضوعه لمتطلبات البحث العلمي والاستقصاء والبرهان.

من العسير على مجتمعاتنا تقبل روح النقد بأريحية، لأنه يعني الحق بالمطالبة بالتغيير والتبديل لفهم ورؤية جديدة للمسلمات التاريخية والدينية ومآلاتها السياسية والاجتماعية، وهو ما تهابه المجتمعات الجامدة والأنظمة المستبدة المتحجّرة المناهضة لسعي المجتمع إلى التغيير والتطوير.

لم أرَ مثالاً  على ما ذكر سابقاً أوضح من  قضية النقد الأدبي لعملاق الأدب العربي طه حسين في كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي»، حين وجّه سهام نقده ونعته بالشعر المنحول الذي وضع لتأييد وشرح معاني القرآن الكريم بالشواهد اللغوية والأساليب الأدبية والفنية والقصص الدرامية الوعظية، واستنتج أن شخصيات نبوية كإبراهيم الخليل، وابنه اسماعيل لا نصيب لها من الوجود التاريخي، وأن أسطورتها حيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهةً، وبين الإسلام واليهودية والقرآن من جهة أخرى.

كما تطرّق طه حسين في كتابه عن الأساطير والقصص التي استوحاها شعراء مأجورين ومغرضين حول العديد من الأحداث والوقائع التاريخية، فنظموا ما يدعى «الشعر الجاهلي» تكلّفاً وصل إلى السخف والإسفاف انحطاطاً، وابتكروا تلك الأخبار التي سموها «أيام العرب»، وزادوا فيها وزيّنوها بالشعر والنثر، ويشمل ذلك حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، وتعدّى ذاك لقوم عاد وثمود وجرهم والعماليق، وهو ما كانت عرب الجاهلية تتسامر فيه حول نيرانها ليلاً  تحت السماء الصافية  المتلألئة بالنجوم في شبه الجزيرة العربية، تجسيداً للمخيال الشعبي الجانح للوجدانيات، والغارق في المثاليات، والمنبهر بخوارق الطبيعة وحكايا اتصال الجن بالمخلوقات البشرية.

ذلك الكتاب لم يتقبله الجمهور  ولا المثقفين خصوصاً، وكانت ردة الفعل ليست بالنقد العلمي أو دحض ما توصّل إليه من نتائج بالحجج والأدلة، بل باللجوء إلى المحكمة والتجريح بالتكفير، وكانت قرارات المحكمة في مصلحة المؤلف طه حسين دفاعاً عن البحث العلمي النزيه.

موضوع النقد عميق وذو شجون، العسر فيه أنه ينطلق أولاً وقبل كل شيء  من نقد ذاتي للفرد قبل أن يتجه إلى النقد الخارجي، وذلك ما تفتقر إليه الغالبية العظمى من شعوبنا العربية!

نقلا عن جريدة الطليعة